سعيد بنكراد
نتناول في هذه الورقة المختصرة بعض الاستعمالات الممكنة للصورة في علاقتها بالحدث، السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي؛ فهي الرديف البصري، أو النسخة الموجهة للمضمون المرئي من خلال فعل الكتابة، أي اللغة الواصفة. والمقصود بالنسخة، في هذا المجال بالذات، هو الضبط الذاتي الذي تقوم به الكتابة أو تفرضه المناسبة (الملصق السياسي) من أجل الحد من إمكانات الإثارة الانفعالية التي ينتجها الحدث المكتوب أو تخصيص مضمونها. فعلى عكس الرأي الشائع القائل بقدرة المكتوب على التحكم في مضامين البصري وتوجيهها (وهو رأي صحيح)، فإن البصري، في مجال الحدث بأنواعه المتعددة، يتحول هو الآخر إلى ضابط جواني يفرض على العين المتفرجة نسخة واحدة يجب أن تكون الوعاء الذي سيستوعب كل مضامين المكتوب، المتحققة منها أو المحتملة فقط، وذاك ما يتسلل إلى الذاكرة.
ذلك أن الصورة في علاقتها بالحدث دالة من حيث الحضور ومن حيث الغياب. فالتحقق البصري قد يكون تقليصا من الحجم الدلالي للحدث وتسييجا له، وقد يكون قراءة مسبقة وموجهة لغاياته، وقد يكون في حالات كثيرة مجرد هوية بصرية محايدة، الغاية منها خلق حالة تطابق بين نسقين (تطابق الاسم مع الصورة). أما في حالات الغياب، فإن الأمر يتخذ منحى آخر، فالحدث في هذه الحالة يتحول إلى كم دلالي مجرد يستعصي على الضبط الكلي والنهائي، لأنه يفلت من سلطان الذاكرة؛ فهذه الأخيرة تقتضي تحيزا بصريا هو أساس التذكر وهو أساس ميكانيزمات الاستحضار. فالذاكرة الإنسانية ذاكرة أيقونية.
وما تقدمه حالتا تسونامي وإعصار كاترينا دال في هذا السياق:
لقد رأى الناس مع تسونامي كل شيء عن الهزة الأرضية ومخلفاتها. ولقد قدمت الوكالات الرسمية والخاصة، وقدم الهواة من المصورين ومن شهود العيان كل شيء عن الفاجعة. لقد رأوا رؤية العين الماء والأمواج العاتية وهي تدمر في طريقها كل شيء، رأوا انجراف التربة وانهيار المنازل ونفوق الحيوانات. ولكنهم رأوا في المقام الأول أجساد الرجال والنساء والأطفال معلقة على الأشجار والأسطح أو مطمورة في الوحل. وتلك الصور هي التي استوطنت الذاكرة وكانت مصدر كل الانفعالات اللاحقة. لم يعد ما جرى قصة دونتها اللغة، بل أصبح حدثا وثّقته الصورة. لقد كان الموت فيها “حقيقيا”، وكانت الأرقام قابلة للعد عيانا.
وكانت هناك مجموعة من الانفعالات التي تسربت إلى العين أيضا: كانت هناك الشفقة والرحمة والأسى، وكان هناك التقزز وربما التشفي أيضا، فقد قيل إن الله يعاقب هؤلاء لأنهم تركوا دينهم. فما رآه الناس ليس ظاهرة طبيعية حدثت وستحدث في المستقبل، بل هو عقاب إلهي لعباد ابتعدوا عن سمائه.
أما مع إعصار كاتارينا فاختلفت الأمور نهائيا. لقد كان هناك رابط آخر بين الحدث وما شاهده الناس. لقد رأوا كل شيء، رأوا البحر الهائج والأمواج الضخمة والريح العاتية وهي تقتلع الأشجار، وسمعوا أو قرأوا عن سقوط ضحايا من الرجال والنساء والأطفال، ولكنهم لم يروا جثة واحدة. لم يروا موتى، ولم يروا أجسادا ملقاة في الطريق أو ممزقة. وظلت الأرقام في الذاكرة بلا قيمة، لأنها كانت بلا سند بصري من خلاله تستقر حقيقة الموت في الذاكرة. وكان هذا الغياب دالا على قاعدة مركزية في آليات الإعلام الأمريكي: إن الجسد الأمريكي يجب ألا يُرى في حالات ضعفه أو وهنه أو تفسخه، لا يجب أن تلوثه العين المبصرة. إن عرضه على العين ميتا أو ممزقا أو ملطخا بالوحل انتقاص من الميت ومساس بكرامة الأمريكي. لذلك يجب ألا يُصور. وبعبارة أخرى، فإن عرضه ميتا على العين تعبير عن ضعف الدولة وضعف مؤسساتها وقدرتها على مواجهة الطبيعة، فذاك يوحي بضعفها أمام أعدائها.
لقد كان الموت في هذه الحالة موتا مجردا، فلا قيمة للأرقام في غياب جثث تشخص الموت الفعلي. لن تحتفظ الذاكرة البصرية بالأرقام، كما احتفظت قديما بصورة فتاة الوردة الشهيرة la fille à la fleur التي وقفت في وجه الجنود في المظاهرات التي خرجت في شوارع أمريكا تناهض الحرب في فيتنام.
وما أخرج الناس إلى الشوارع في الشهور الأخيرة في أمريكا ليس خبرا مكتوبا في الصحافة يتحدث عن موت مواطن أمريكي أسود تحت أقدام شرطي عنصري، لقد رأوا الموت عيانا، إنه موت بالمباشر، كما يمكن للعين أن تراه وهو يتسلل إلى الجسد المقموع وهو يصرخ “إني أختنق”. لم تكن الصورة جزءا من خبر، ولم تكن للتأكيد أيضا، لقد كانت هي الحدث الذي حاول البعض إعادة صياغته في اللغة، وحاول البعض التصدي له في الشوارع.
وهذا المبدأ ذاته هو الذي يتحكم فيما يقال عن القنابل الذكية والحروب التي لا تقتل سوى الأشرار. إن النصر الحقيقي لا يتحقق في الأرض، بل يجب أن يتحقق على مستوى الصورة أولا. لم ير الناس ما وقع في العراق وأفغانستان، لقد رأوا صورا لقنابل تسقط ولم يروا جثثا، وإذا حدث أن كانت هناك جثث فهي للشرير، فالأمريكي لا يموت، وقنابله تنتقي ضحاياها.
استنادا إلى هذا تتضح طبيعة الروابط الموجودة بينهما – بين المكتوب والصورة -. إنها روابط تتميز بالتعقيد والتركيب واللااستقرار، وتلك هي الحدود الفاصلة بين المدرك والمتمثل، ما يحضر أمام العين وما تذهب إليه وتتأمله، وبين ما يظل إمكانا في اللغة. إن إدراك هذه الفواصل هو المدخل نحو فهم طبيعة الدلالات المرتبطة بهذا النشاط أو ذاك. فالإدراك والتمثل طريقتان مختلفتان تسلكهما الذات للخروج من قمقمها والانتشار في العالم الخارجي. وهذا العالم يتغير وفق حضوره من خلال إدراك مباشر أو من خلال عمليات تمثل مفتوحة.
نحن هنا أمام تراكب بين البصري والمكتوب، أي ضمن وضع يجمع بين النشاطين وفق آلية داخلية تجعل الإدراك في خدمة التمثل، ولكنها تقوم بالحد من ممكنات التمثل وتطويقها من خلال توجيه العين إلى المرئي. فالكتابة مرتبطة أشد الارتباط بحالات التمثل، فما يروى لا يمكن أن يكون وصفا كليا للحدث، فلا بد للذاكرة والأحكام المسبقة أن تضيف أشياء ليست موجودة بالضرورة في الحدث. لذلك كان القتل أو الاغتصاب أو السرقة أفعالا مجردة، ولكن الرسوم التي ترافق الخبر، وهي رسوم مستقاة من خزان يشتمل على نماذج للأفعال الإنسانية، القبيح منها والجميل، يحققها وفق طبيعة كل لحظة. إننا لا نرى الاغتصاب الفعلي ولكننا نستحضر كل صوره الممكنة.