سعيد بنگراد
دار الحوار 2016
مقدمة
يبدو الإنسان في علاقته بالزمن كائنا مولعا بالبدايات، فهو مُوَجه من داخله نحو النهاية. وذاك ما يدفعه إلى الاحتفاء بيوم ميلاده ويوم زواجه، كما يحتفي بانتصاراته وهزائمه وبما خَلَّفه التاريخ من معالم يُقاس عليها نُمو البشرية أو اندحارها. إنه يقوم بذلك كله رغبة في استعادة ما خَفي عنه وما تجاهله أو ما ضيعته صروف الدهر في غفلة منه. وهو ما يعني أن الحياة لا يمكن أن توجد إلا من خلال قدرة الإنسان على التقاط صورها كما تتشكل في الذاكرة ضمن “إيقاعات” زمنية لحظة تسريبها لمحكيات “تصف” الحالات والتحولات وتُحصي أشكال وجودها في الكائنات والأشياء.
استنادا إلى هذه الرغبة لن يكون النشاط السردي عنده سوى محاولة لرسم حدود عالم إنساني مضاف يتحرك على هامش الدفق الزمني المعتاد. لذلك لا يختلف البحث عن “البدايات” في مجال السرد التخييلي عن الرغبة في تَلَمس البدايات الأولى للكون إلا في الظاهر. فبدايات السرد ليست سوى صورة مصغرة عن البدايات الكبرى في الوجود. ففي هذا وذاك محاولة للانزياح عن خطاطات حياتية مُسْبقة مودعة في الثقافة واللغة والقلق الوجودي ذاته، أملا في العودة إلى أصل أول يتطهر داخله الإنسان ويستعيد ذاتَه خاليةً من كل “شوائب” التمدن والتحضر.
وتلك طبيعة كل القصص، “إنها حركة موجهة إلى أمام يسير نحو نقطة بعينها (…)، ومن هذه النقطة يستمد المحكي كل جاذبيته، فانطلاقته مشروطة بإسقاط ممكناتها. ومع ذلك، فإن هذا المحكي ذاته هو ما يُحدد الفضاء الذي تصبح فيه هذه النقطة حقيقة في الواقع “(1). تماما كما هي قصص الانتصار والنجاح ولحظات المتعة، ومثيلاتها من اليأس والقنوط وكل حالات النكوص في حياة الإنسان. يتعلق الأمر بصيغة استعارية دالة على شكل حضورنا في الحياة ذاتها: فالمولود منذور لموت لا راد لقضائه، إنه قصة تستوطن ألبومات العائلة والمذكرات وتُعاد كتابتها في أحلام الطفولة والشباب وتساؤلات الكهولة وأمراض أرذل العمر. ولن تكون حكايات الأبطال والمغامرين والرحالة وأصحاب الكرامات والكبار في السياسة والفن سوى جزء من هذه القصة، فذاك إرث يتقاسمه التابعون والمريدون والمعجبون.
ومن هذا استمدت السرديات المعاصرة جزءا من أصولها الأولى، لقد التقطت تفاصيل هذه القصة وفصَّلت الزمنية وفقها على مقاس خطاطة كونية تصف الفعل الإنساني من خلال لحظات محددة لطبيعة السلوك وأشكال تجليه. تستعيد هذه الخطاطة في تركيبتها وطريقة اشتغالها نمط حياة الإنسان ذاته. فالكائن مُبرمج، اختيارا أو جبرا، بشكل سابق في ما هو متاح في الأشكال السردية الكونية باعتباره قصة، فهو مُحرَّك ( من داخله أو من خارجه سيان) ومشدود إلى غاية، وهو جاهز للفعل من خلال حصوله على صيغ تأهيلية تجعل الفعل قابلا للتحقق، ثم يكون فاعلا حقيقيا وقادرا على تغيير وجه الحالات والفعل في محيطه المباشر الطبيعي والاجتماعي، وتخضع أفعاله في آخر الرحلة لتقويم حيث تشكل النهاية لحظة جزاء يُحكم فيها على الفعل بالسلب أو الإيجاب،كما سيُفعل مع الإنسان في عالم آخر.
وقد تكون قصة الخلق التي تداولتها الأساطير والأديان هي أصل كل القصص، أو هي المحكي الأصلي الذي ستتناسل منه كل حكايات الكون، كبيرها وصغيرها. فنحن منتجات سردية، بالسرد نحب ونكره ونُغْري ونُحَفز، وبه نضلل وننشر الدجل والأباطيل، ومنه تُسْتَمد كل الشرعيات في الدين والانتماءات القبلية والعرقية. وذاك أيضا، فيما يبدو، ديدن المؤسسات الاجتماعية والأنظمة السياسية والأنساق المعرفية الكبرى. فهذه جميعها لا يمكن أن توجد إلا “إذا استندت إلى معتقد يتخذ في الغالب من الحالات شكلا سرديا” (2)، إنها الأساطير المؤسسة لكل شيء. فلم تَرث الكثير من الشعوب من تاريخها، الطويل أو القصير، سوى سلسلة لا تنتهي من المرويات الإخبارية ضَمَّنَتْها كل شيء عن حياتها ومماتها.
وموروثنا شاهد على ذلك، إنه يخترق حياتنا كلها في شكل مجموعة من المحكيات التي تشير إلى مواقف هي النافذة “القيمية” التي نُطل من خلالها على سلوكاتنا في الحاضر وفي ما سيأتي بعده. فما ورثناه من الدين ليس أحكاما قطعية إلا في ظاهر النصوص المؤسسة، أما في الحواشي المصاحبة أو الشارحة، فهو مجموعة من الحكايات المقتطعَة من زمنية قدسية تستوعب كل تفاصيل حياة الذين سبقونا، وعلى أساسها يجب أن يتصور المؤمن زمنية الدنيا الأصلية الخالية من كل القصص. فالمنطق الجبْري يقتضي، في وجهه السردي المفترض، تصور الحياة من خلال صيغتين، واحدة في النصوص، أي في السماء، هي “المكتوب” ذاته، والثانية حقيقية وهي الوجه العرضي في الوجود الأرضي. يولد المرء في قصص السابقين وداخلها ينمو ويكبر، ولن تكون سلوكاته سوى نسخة من نموذج هو مضمون القصة ومبرر وجودها.
يتعلق الأمر في كل هذه الصيغ الاستعارية، الصريحة أو الضمنية، بقصة الوجود الكبرى التي تناوبت الأساطير والخرافات والقصص اللاهوتية على تحديد تخومها لحظة البدء حيث الرغبة في وضع اليد على ماهية الأول المطلق، أو استكشاف حالات الوعد والاختيار أو الخطيئة أو الاستخلاف، ولحظة النهاية حيث تنكفئ السلاسل على نفسها ويستعيد واهب الزمنية ما أطلق : وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا لَعِب وَلَهْوٌ وَلَلدَّار الْآخِرَة خَيْر لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ( الأنعام الآية 32). لذلك لا قيمة للمشخص الحدثي، في جميع تفاصيل الحياة، إلا إذا كان مجرد يافطة لمخفي في عالم آخر. وهو ما يعني أن ” الواقع ذاته ليس كذلك إلا إذا كان محاكاة لنموذج سماوي، يتعلق الأمر برمزية تستوعب كل شيء في الوجود، المدن والمعابد والمآثر، وهي كيانات تشغل جميعها باعتبارها مركزا للكون “(3).
وبذلك يكون هذا العالم الموصوف في السرد جزءا من تصور شعبي للحياة يُسنده فكر تناظري قائم على التشابه بين كائنات وأشياء وظواهر من طبائع مختلفة. وتلك هي القوة الضاربة للسرد وذاك مصدر طاقات التأثير داخله. فهو ليس حجاجا يعتمد المنطق في بناء حقائقه، بل يستند إلى المحتمل الذي يبني عوالمه خارج سلطة الزمنية الواقعية، لذلك لا يبشر بحقيقة قابلة للتصديق، بل يبني عالما هو مرجع ذاته ومرجع حقائقه. “فلا صلة للسرد بالواقع، إنه يكتفي بمنح معنى لأشيائه “(4). ورغم ذلك، فإن ما يستهوينا هو هذا المعنى بالذات، لأنه لا يقيدنا بالحقائق بل يغرينا بممكنات تعشش في الافتراض وحده.
وهذا ما يمنح المحكي موقعا خاصا في ذاكرة الإنسان ووجدانه. إنه لا يروي حدثا، وإنما يشخص خبرة ضمن تفاصيل الفرجة الحياتية وفق إكراهات زمنية تُعاش في اليومي بعيدا عن الصياغة التجريدية لحدودها. وبذلك سيكون السرد تأثيثا زمنيا لعالم لا يمكن أن يوجد إلا من خلال قصصه ورواياته. إنه، بعبارة أخرى، أداة لنقل ما راكمه الناس من معارف في كل المجالات ويتداولونه من خلال أشكال سردية يورثونها للخلف. ومن هذا المفترض تستمد القوانين الجنائية أو الجنحية مضمونها. فكل فصل من فصولها ليس سوى قصة يحاول الادعاء جاهدا تحيين تفاصيلها من خلال تسييجها بسياق، ويُصر الدفاع على التشكيك في كل السياقات الممكنة.
إن المحكي على هذا الأساس يعلمنا كل شيء : إنه يعلمنا كيف نحيا ( بول ريكور)، ويعلمنا كيف نحكم ونقيس ( ماك أنتير) أو قد يصبح أداة للحجاج أو جوابا عن سؤال ( فيلهالم شاب) (5)، ويعلمنا كيف نحب، فهو في هذه الحالات مجتمعة محرك فعال لانفعالات تبحث عن موطن في المحتمل بعيدا عن البرهنة العقلية، وكما أن الإنسان منتج لغوي، فإن أحاسيسه لا يمكن الكشف عنها إلا مجسدة في محكيات صغيرة ( قصص اليتامى وقصص المظلومين والظالمين وقصص العاشقين وآهاتهم)، أو كبيرة، كل التراجيديات التي عرفها الإنسان وتداولها في حكاياته: فالكراهية والعشق والحقد ليست انفعالات إلا في الظاهر، أما في مضمونها الخفي فهي قصة كل الكارهين والعاشقين والحاقدين. فمن خلال الحكاية نراكم الخبرات المعرفية ونتعرف على رغباتنا أيضا، ونكشف عما استبطنه الداخل المظلم في غفلة من الرقابة العقلية.
وقد يكون هذا الإحساس العام هو الذي حدا ببروب، في ثلاثينيات القرن الماضي، إلى الدفع بالأشياء إلى حدودها القصوى حين افترض وجود بنية سردية واحدة تشترك فيها الإنسانية جمعاء، أي أنه ليس هناك في الكون سوى قصة واحدة تفرعت عنها كل القصص التي تحكي تاريخ الإنسان في الأرض: عذاباته وآلامه وآماله وهزائمه وانتصاراته على نفسه وعلى الكائنات التي صاحبته في رحلة البحث عن معنى سيخلق من خلاله تاريخه الخاص في انفصال عن الطبيعة وضدا عليها. يتعلق الأمر بما يمكن أن يشير إلى السيرورات التي يُصب من خلالها الفعل الحافي في صيغ رمزية ( لفظية أو بصرية) لكي يصبح قابلا للتعميم والتداول بين الناس. استنادا إلى هذا التمثيل، لن يكون ” التساؤل عن طبيعة السرد عامة سوى تساؤل عن الطريقة التي تتحول فيها التجربة اليومية إلى كلمات “(6).
وإلى هذا الحد تبدو الحكايات في تنوعها واختلافاتها كأنها محاولة يغطي عليها التشخيص للإجابة عن أسئلة هي ما يحدد في الجوهر طبيعة وجود الإنسان في الأرض، أي وجوده في المعنى: ما يعود إلى الفعل، وما له صلة بالمعيش اليومي، وما يحيط بالكينونة (7). فنحن نتعلم من نجاح الآخرين ونتفادى أخطاءهم ونتوقع ردود أفعال لا نعرف عنها أي شيء ونصحح أخطاءنا في الوقت ذاته. وبالموازاة مع ذلك، نخلق لأنفسنا نماذج للتماهي أو الاحتذاء، سواء تعلق الأمر بالمواقف الكبيرة كما هي الحياة الفكرية أو الفنية التي تقدمها سير العظماء ومذكراتهم، أو ما يقدمه الإشهار حين يضع أشباه الفنانين مثالا لكل شيء ( اللباس والأكل والعطور).
أما الكينونة، وهي السؤال الثالث، فلا علاقة لها بالفعل، ولا تكترث لتفاصيل المعيش ونماذج التماهي فيها، إنها تشير إلى كل ما يمكن أن يساعد على معرفة أسرار الوجود وطبيعة القوى التي تتحكم فينا وتحدد لنا مصائرنا، بل هي التي تملي علينا طقوسا وتعاليم معينة يجب الالتزام بها. يندرج ضمن هذا السؤال ما له علاقة بأساطير الكون وقصص الخلق وحياة الأنبياء وما تلاهم من الصالحين وأصحاب الكرامات. وضمنه أيضا يمكن إدراج ما قاله جورج لوكاتش عن الرواية حين اعتبرها ” أداة تبلورت ضمن مجتمع تخلت عنه الآلهة”. فالأزمنة المعاصرة التي تنازلت عن تاريخها في القصص القديمة والأساطير هي ذاتها التي تبحث اليوم عن آلهة في الأرض تكفيها شر الطغيان السياسي والاجتماعي.
تلكم بعض من القضايا التي حاولنا الإحاطة ببعض تفاصيلها في هذا الكتاب. وهي التي تحكمت في دراساتنا التطبيقية في القسم الأول منه. فنحن لم ندرس ما تقوله هذه الروايات من زاوية البناء وحده، ما تقترحه النظريات التقنوية التي عجزت عن تحديد مكامن قلق الإنسان المودع في حكاياته، بل حاولنا في جميع النماذج المنتقاة تلمس الطريق إلى ما لا يقوله النص بشكل مباشر أو ما قاله وفق صيغ مشخصة تروم التمثيل لعوالم الرمزي في الوجود. فقد تبدو الرواية في ظاهرها نافذة على عالم يقول كل شيء من خلال أحداثها، ولكنها في الأصل ليست سوى ما تصوغه اللغة وتعيد إنتاجه في المحتمل، لا في ما حدث فعلا. ذلك أن الحكاية لا تكشف عن نواياها أبدا، فمضمونها مودع في التفاصيل لا في القصد المباشر للمتلفظ، وما نقوم بروايته ليس حقيقة، كما توهمنا الكلمات بذلك، وإنما هو محاولة لبنائها من خلال الحكاية ذاتها، ذلك أن جزءا من هذه الحقيقة مستمد من هوى الملتفظ وانفعالاته.
واستندنا إلى هذه الخلاصات في القسم النظري أيضا، ففيه حاولنا الإحاطة بمجموعة من القضايا التي تخص طبيعة السرد وقدرته على أن يكون أداة للحقيقة والتضليل، وأداة لاستعادة ما أهمله المؤرخون، وأداة للشرعية في النفس والسياسة والدين والقيم والإيديولوجيا. ذلك أن وجودنا في السرد أقوى من وجودنا في حقيقة التاريخ، فما تبنيه الحكاية لا يمكن، إلا في النادر من الحالات، إلغاؤه أو التحكم في امتداداته. كل شيء يتم كما لو أن حياتنا مودعة في القصص نفسها، لا في ما يقوله الحدث اليومي، لذلك قد تكون الحكاية هي الوسيلة المثلى، إن لم تكن الوحيدة، لتسريب التجربة الفردية إلى ما راكمته الجماعة واحتفت به أو قاومته.
هوامش
—–
1-Jean Michel Adam : Le récit, éd Que sais-je,1984, p.9
2-A Kibedi Varga : Discours, Récit , Image, éd Mardaga éditeur, Bruxelles, p.74
3- Mircea Eliade : Le mythe de l’eternel retour, éd Folio, 1969,p.17
4- Jérôme Bruner : Pourquoi nous racontons-nous des histoires, éd Retz, 2000, p.11
5- A Kibedi Varga, op cit p.73
6- le récit, op cit, p.9
7- A Kibedi Varga, op cit, p.74
المحتويات
مقدمة
القسم الأول
السرد والمحتمل والعوالم الممكنة
-الزمنية واحتمالات السرد
-السرد النسائي أو الفحولة المسترجلة
-الطوفان الرمزي في السرد الروائي
– السرد والمحتمل والكلمات
-حقائق التاريخ وممكنات الهوية السردية
-شخصيات الرواية وأشباح التاريخ
القسم الثاني
السرد الروائي وتجليات الذات والتاريخ
-“أنا” الغرام و”حالات التشهي”
-عَيٌّ في المعنى أم عَيٌّ في العبارة ؟
ماء الفرات والعرس الذي لا ينتهي
-الثوب في كل حالاته
– الزمن المستقطع من تاريخ مشكوك فيه
-جناحان للروح
-سرد الصفات أو سيرة “الهوى”